من الأشياء التي أصبحت مألوفة، في هذا العصر، حالة الإحباط والتراخي، التي أصابت عدداً كبيراً من الشباب..
وربما الأسوأ منها، حالة أطلق عليها اسم (غيبوبة حلم النجاح السريع)..
والثراء السريع..
وهذا ليس في (مصر) وحدها، كما قد تتصورون..
إنه في العالم أجمع..
كل شباب العالم صار لديه حلم الثراء السريع..
وليست هناك مشكلة في أن تحلم..
على شرط واحد..
أن تسعى لتحقيق حلمك..
ودعوني أكرر أكثر من مرة..
أن تسعى..
وتتعب..
وتكافح..
وتسهر..
وتعرف..
ثم تنجح..
ولكن المشكلة أن ما أقوله يتعارض كثيراً مع ما اعتدت عليه، في حياتك اليومية..
وفي تعاملاتك..
مع الكمبيوتر فقط..
وهنا تكمن المشكلة الكبرى..
المشكلة التي ستدفعنا إلى تغيير اسم الحالة (غيبوبة حلم النجاح السريع) إلى (غيبوبة الكمبيوتر)..
فكل
منكم صار يقضي معظم وقته أمام جهاز الكمبيوتر، إما لتصفح شبكة الإنترنت،
أو لممارسة لعبة من الألعاب الرقمية الحديثة، أو حتى للتوغل في أحد برامج
الموسيقى أو الصور أو أفلام الفيديو..
وكل هذه أمور تستطيعون فعلها بضغطة زر..
أو عدة أزرار..
المهم أنها لا تجشّمكم مشقة كفاح.. أو عمل.. أو عرق.. أو جهد..
فقط
بالضغط على الأزرار، يمكنك أن تجوب العالم كله، وتلعب أعقد الألعاب
الرقمية وأكثرها متعة وإثارة، وتحصل على أحدث ألبومات الموسيقى، وتشاهد
أفلاما لم تعرفها شاشات السينما إلا منذ أيام..
وبالضغط على أزرار أخرى، يمكنك مشاهدة قنوات تليفزيونات العالم..
والتحدث عبر هاتف، لا يبلغ حجمه نصف حجم كفك، إلى أي مخلوق، في أي مكان في العالم، أو ترسل إليه رسالة نصية في لحظات..
أزرار..
أزرار..
أزرار..
حياتك كلها أصبحت مجموعة من الأزرار..
هكذا أصبحت تراها..
وتمارسها..
وتتصور أن هكذا ينبغي أن تسير كل الأمور..
ومن المؤكد، أنك مع كل هذا، لم تنتبه إلى حقيقة مخيفة..
إنك
تجيد استخدام الكمبيوتر، وتصفح شبكة الإنترنت، وتحميل الموسيقى والأغنيات
والأفلام والبرامج، والعثور على أساليب لتجاوز سرية أو شفرة تشغيل كل هذا..
وتجيد استعمال الموباليل، والتعامل معه، وحفظ كل الأكواد اللازمة ليفتح لك الدنيا..
وتحفظ ترددات قنوات فضائية، لا يعرفها أصدقاؤك..
ولكنك أبداً.. أبداً.. لم تبتكر أو تطوّر، أو حتى تدرس دائرة واحدة، من الدوائر الرقمية، في الكمبيوتر، أو الموبايل، أو الدش..
ولم تبتكر أو تطوّر، أو حتى تفهم تركيبة أي برنامج..
ولا كيفية ترقيم الموسيقى والأفلام..
ولا اسم من ابتكر شبكة الإنترنت..
باختصار.. أنت مستخدم ممتاز..
وستبقى دوماً في خانة (مستخدم)..
فقط مستخدم..
هذا لأن تلك الحياة الرقمية خدعتك، وأوهمتك بأن كل أمور الدنيا مجرد أزرار، تضغطها فيسير كل شيء كما تريد..
والحياة في حقيقتها ليست كذلك..
كل شيء فيها يسير كما تريد هي، وليس كما تريد أنت أو غيرك..
أبداً..
وهذا أمر منطقي تماماً، فما تريده أنت ليس ما يريده الجميع..
ربما تريد أنت اتجاهاً، ويريد رفيقك آخر..
فمن ستطيع الدنيا؟!
أنت، أم هو؟!
ولماذا
تطيع أيكما على كل الأحوال، إنها تسير في طريقها، وعلى من يريدها أن يلحق
بها، ويسير في ركبها، وإلا فاتته كقطار سريع، ينطلق دوماً في مواعيد
ثابتة، ولا ينتظر أحداً..
بل إن القطار نفسه، مجرد وسيلة نقل، من وسائل الحياة..
وسيلة يمكن أن تتعطَّل..
أو تتوقف..
أو حتى تحترق..
والحياة أبداً ليست كذلك..
باختصار.. لقد سقطتم جميعاً في (غيبوبة الكمبيوتر)..
غيبوبة أوهمتكم بأنكم قادرون على فعل الكثير، وتجاوز الكثير، والسيطرة على الكثير..
غيبوبة جعلتكم تحلمون..
وتبالغون في أحلامكم..
وتكتفون بها..
وهنا تكمن الكارثة..
أنكم تحلمون.. وتسترخون.. وتتقاعسون..
وتضيع منكم سنة، وراء سنة.. وراء سنة.. وراء سنة..
وعندما
تبدأون في الخروج من الغيبوبة، يكون جزء كبير من العمر قد ضاع في غيبوبة
حلم، وسبقكم من لم يكتفِ بالحلم، ومن كافح وجاهد وسعى.. وأدرك أن الدنيا
ليست -حتماً- مجموعة من الأزرار..
وأنها تحتاج إلى مهارات كثيرة.. منها.. منها فقط الكمبيوتر..
فالكمبيوتر لم يعد مهارة منفردة، إلا بالنسبة للعاملين في مجاله التخصصي فحسب، وحتى هؤلاء، يحتاجون حتماً إلى مهارات إضافية..
الكمبيوتر صار وسيلة، تُستخدم في كل مجالات العمل..
في الاتصالات..
وشركات الإنتاج..
والمصانع..
والصيدليات..
وكل مكان تقريباً..
وهذا يعني أنه قد صار مهارة أساسية، ولكن ليس مهارة منفردة..
وحتى في هذا، دعوني أسألكم في صراحة: كم منكم قرأ كتاباً عن كيفية التعامل الصحيح مع أجهزة الكمبيوتر؟!
حتى
من يعملون منكم في مجال الكمبيوتر، قليل منهم فعلوها، ودرسوه على نحو جاد
وصحيح، أما الباقون، فقد تعاملوا معه كفنيين من الدرجة الثالثة، إما عن
طريق التجربة والخطأ، أو عن طريق السمع والسؤال عن الحلول، وبعدها صاروا
يتباهون بخبراتهم، التي من الممكن أن يكتسبوا عشرة أضعافها، مع أول مائة
صفحة في أي كتاب متخصص..
أيها الشباب، صدقوني، أنتم في غيبوبة..
غيبوبة كمبيوتر..
عميقة..