احترمت كثيراً قراراً أصدرته إحدى المحاكم الألمانية، قضى بحرمان طبيب
من ممارسة المهنة؛ لأنه ارتكب مخالفات ضريبية جسيمة، واعتبرت ذلك مما يجرح
استقامته، ويفقده شرف ممارسة المهنة النبيلة التي ينتمي إليها. الخبر بثته
وكالة الأنباء الألمانية، وذكرت فيه أن محكمة لونبورج العليا عرضت عليها
قضية طبيب عيون أخفى لمدة عشر سنوات مبالغ طائلة من دخل عيادته، قدرت
فوائدها بنحو 877 ألف يورو، وعند استجوابه برر إخفاء البيانات الضريبية
الصحيحة المتعلقة بدخل عيادته لخوفه من تردي الوضع الاقتصادي؛ لكنها وصفت
هذا التبرير بأنه "ساذج"؛ لا سيما وأن متوسط دخل عيادته السنوي يزيد على
200 ألف يورو.
المحكمة أدانت الرجل، وحكمت عليه بالسجن لمدة سنتين
مع وقف التنفيذ، وأهم من ذلك أنها قررت حرمانه من ممارسة مهنته؛ معتبرة أن
من يصرّ بهذه الطريقة على التهرب الضريبي، يفقد الثقة المطلوبة فيمن يمارس
الطب، وهي المهنة الرسالية التي تفترض فيمن ينتمي إليها أن يتصف بالسلوك
القويم، الذي يجعله مؤتمناً على صحة المريض؛ في حين أن الطبيب المذكور
تحرى بسلوكه صالحه المادي فقط.
لم يكن الحكم فريداً في بابه؛ لأن
تقرير الوكالة الألمانية أشار إلى حكم سابق أصدرته المحكمة الإدارية في
مدينة هانوفر بشمال ألمانيا؛ قرر أن الطبيب يفقد شرف الحق في ممارسة مهنة
الطب إذا ما تورط في مخالفات ضريبية جسيمة.
أهمية هذا الحكم والذي
سبقه أنه يدافع عن أخلاقيات المواطن، ويربط بينها وبين أخلاقيات مهنة
الطب، وهي القيمة التي نفتقدها ولا تكاد تذكر في خطابنا المعاصر؛ ذلك أن
مفهوم الأخلاق عندنا تم تضييقه بحيث بات ينصرف إلى السلوكيات المتصلة
بالفضائل الفردية والابتعاد عن الرذائل. وهو ذاته المنهج الذي حصر
المنكرات في شرب الخمر وارتكاب الفواحش والمعاصي، وتلك منكرات لا ريب،
لكنها تمثل حدودها الدنيا التي تتعلق بذات الفرد. أما المنكرات العامة
(الوصف أطلقه الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين)؛ فهي
تلك التي يكون المجتمع طرفاً فيها، وقد خصّ بالذكر الإنكار على الأمراء
والسلاطين الظلمة باعتباره واجباً لا يستطيع المؤمن الملتزم أن يتحلل من
أدائه.
الشيخ محمد الغزالي كان دائم الانتقاد للتركيز على
الانحرافات الأخلاقية الخاصة والانصراف عن الأخلاق العامة، وقد سمعته أكثر
من مرة وهو يقول: إن واقعة الاعتداء على شرف البنت تقيم الدنيا ولا تقعدها
في عالمنا العربي، أما الاعتداء على شرف الوطن؛ فإنه لا يكاد يحرك شيئاً
لدى عامة الناس الذين يستهولون الأولى ويستشيطون غضباً لأجلها.
إننا
إذا دققنا في الصورة جيداً؛ سنجد أن استقامة المرء تتوزع على ثلاث دوائر؛
واحدة تتعلق بأخلاقه الخاصة وفضائله كإنسان مهذب أو منافق أو كذوب أو غير
ذلك. وواحدة تتعلق بأخلاقه المهنية التي تختلف بأخلاق المهنة أو الحرفة،
وثالثة وثيقة الصلة بسلوكياته كمواطن، وهذه السلوكيات تتراوح بين التزامه
بالقانون واحترامه للنظام العام، وبين انتظار دوره في الطابور وعدم إلقائه
للقمامة في الشارع، والمواطن الصالح حقاً هو من تتكامل عنده هذه الدوائر
التي تشكل أركان فكرة "الاستقامة". والمشكلة عندنا تكمن في أننا نفصل فيما
بينها ولا نقيم وزناً لتكاملها.
فأستاذ الجامعة الذي يسرق فصلاً من
كتاب آخر لا يعاقب بمنعه من التدريس؛ ولكنه قد يحرم من الترقية لبعض الوقت
أو ينقل إلى مكان آخر، وكبار المسئولين الذين يتربحون من وظائفهم أو تثبت
بحقهم أي انحرافات أخرى يظلون في مواقعهم اطمئناناً إلى ولائهم. ولا أحد
يدرك أن من شأن ذلك تغييب النموذج الذي يجسد فكرة الاستقامة عند الناس؛
ليس ذلك فحسب؛ وإنما يتحول المنحرف -بمضي الوقت- إلى بؤرة لإشاعة الانحراف
والفساد في المجتمع، وقيمة الحكم الذي صدر في ألمانيا أنه ربط بين الأخلاق
المهنية وأخلاق المواطنة، وقدم الثانية على الأولى. بالتالي؛ فإنه تعامل
مع مكونات الاستقامة باعتبارها قيمة واحدة لا تقبل المفاصلة أو التقسيط.
صحيح أن البون شاسع بيننا وبينهم؛ لكن ذلك لا يمنع من أن نغبطهم على ما يفعلون وأن نحسدهم أيضاً!